26 - 06 - 2024

كلام لبكره| لماذا هذا الانسداد السياسي؟ (٢ -٢)

كلام لبكره| لماذا هذا الانسداد السياسي؟ (٢ -٢)

تحدثنا في مقال سابق عن الانسداد السياسي، اسبابه ودوافعه، واليوم نتحدث عن بعض نتائجه وهي مواجهته بطرق عنيفة ومردود ذلك على المجتمع بأثره، والنتيجة الكارثية لذلك.

العنف في إطار التغير الاجتماعي راجع إلى عدة أسباب وعوامل مختلفة، لكن جلها تصب في نوعين من الأسباب. أسباب أساسية، وأسباب فاعلة، فأمّا الأسبـاب الأساسية فهي تلك التي تتميز بكونها أكثر ديمومة وعمقا ويمكن أن تكون أرضية لأسباب أخرى كثيرة تتفرع منها. أمّا الأسباب الفاعلة فهي تلك التي يمكن أن تزهر في مرحلة معينة وتختفي في أخرى، ويمكن أن يختلف أثرها من وقت إلى آخر أو من مكان إلى آخر، ويمكن ردّها إلى غيرها أي أنّها منبثقة أو ناتجة عن غيرها التي هي أكثر عمقا ديمومة، أي إلى الأسباب التي ندعوها أساسية. وهذا لا يعني على الإطلاق أنّها غير مهمة أو قليلة الفاعلية والتأثير، بل يعني فقط أنّها ناتجة عن غيرها أي إنّ تأثيرها وفاعليتها غالبا ما ترتبط بوجود أو غياب تلك التي نعدها أساسية رغم أنّها في مراحل معينة أو تجارب معينة تبدو وكأنّها الأكثر فـاعلية وأثرا. وما الأمثلة التي سقناها قبلا إلاّ خير تبرير على ذلك.

في الجزائر و غيرها من الدول العربية، و في سياق الأوضاع الراهنة، تمت حملة اعتقالات ومضايقات بوليسية ضد المحتجين على الكثير من الأوضاع، كارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتزايد معدلات البطالة، التي كانت سببا في اندلاع أعمال العنف. و لكن هذه الأسباب يمكن أن نردها إلى أسباب أخرى أكثر عمقا، فالأزمات السياسية أو حملة الاعتقالات أو تجاوز القانون…، لا يمكن حدوثها في الغالب إلاّ في حال غياب الديمقراطية. لذلك نعد غياب الديمقراطية هو السبب الأساسي، أمّا الأسباب الأخرى التي ذكرناها فهي أسباب مباشرة أو فاعلة غير أنّها ترتكز في الأساس على غياب الديمقـراطية. كذلك الأمر بالنسبة لارتفاع الأسعـار أو البطـالة، يمكن ردها إلى حـالة التخلف الاقتصـادي و الاجتماعي على الأغلب، و من ثم فهذا الأخير هو السبب الأساسي و الأكثر عمقا أكثر من غيره.

بمعنى أن كل تلك الاحتجاجات والمظـاهرات على تردي الأوضـاع الاجتماعية، و ارتفاع معدلات البطالة، و تهميش الطاقـات الشـابة، وغلاء الأسعـار، كلها متغيرات تـابعة للمتغير المستقل ألا وهو التخلف الاقتصـادي والاجتماعي. وكل تلك المتغيرات التابعة من شأنها أن تهيأ الأرضية الصالحة و المشجعة لانتشار عدد كبير من الآفات الاجتماعية، من فساد و جريمة و عنف واستبداد. والنخب الحاكمة نتيجة التأخر الاقتصادي وسوء استخدام الموارد البشرية منها والطبيعية تظهر بمظهر العاجز عن تقديم مبررات وجودها بطريقة عقلانية مقنعة، بحكم افتقارها للحلول الضرورية لذلك، وتعجز عن حل المشاكل الاجتماعية التي أشرنا إليها بحكم الضعف الوظيفي الذي يصيب جهازها الإداري و هذا ما يمهد لظهور حركات ثورية ضدها، فهناك علاقة واضحة بين ظهور الحركات الثورية الجذرية وبين وعي عام بأنّ المجتمع يواجه مشاكل اجتماعية و اقتصادية و أوضاعا سلبية كثيرة و لكن دون كفاءة على حلها.

فالدولة حتى تفرض نفسها، و تجد الحلول اللازمة واقفة في وجه كل التحولات التي يردها أغلبية المحكومين، ليس عليها استعمال القوة و القسر كحل دائم و وحيد. بل لابد لها من تحقيق هيمنة فكرية تؤهلها للحصول على اقتناع شرائح واسعة من المجتمع و تأييدها. و ذلك لن يتأتى لها إلاّ من خلال أشخاص أعدوا لذلك. إذ أنّ المعرفة العلمية للوضع الاجتمـاعي و السيـاسي في أي من المجتمعات هي التي تتيح إمكانية العمل على تثبيت هذا الوضع و تبريره أو تغييره، و لكن هذه المعرفة ليست متاحة لكل الشرائح، لأنّها تقتضـي حدا معينا من المعرفة الوقـائع و التحولات الاجتماعية و التاريخية، فضلا عن بضاعة علمية صحيحة قادرة على إدراك انتظامها و قوانينها. و هذا لا يتوافر إلاّ لدى من أعدّ لهذا الغرض، أو من هو قادر عليه بحكم طبيعة عمله، أي المثقف، أو مجموعة من المثقفين القادرين على هذا العمل. و من ثمّ، عندما يقـوم المثقف بدوره الذي أعد له بالأصل، غالبـا ما يجسد وعي المجتمع و ضميره الحي، الذي يحاسب وينظر، ويعبر عن المطامح الكبرى لعامة الشعب، أو الجماهير الواسعة ويؤثر فيها بواسطة الكلمة.

ولذلك فالمثقفـون الذين لا يتمكنون من الحصـول على العمل الذي يتناسب مع مـؤهلاتهم ومكـانتهم أو يضطرون إلى القيام بأعمال لم يعدّوا لها بالأصل، يشكلون في الغالب، شريحة ناقمة، يمكن لأية جهة أن تستغلها في سبيل تدمير النظام القائم عن طريق الثورة أو حتى عن طريق العنف الفردي الذي يوصف أحيانا بالإرهاب. و إذا لم تتمكن الدولة أو النخب الحاكمة من استيعاب المثقفين و تجنيدهم بما يخدمها، و من تحقيق هيمنة ثقافية، وما يترتب عليها من إقناع شرائح واسعة و مختلفة من المجتمع بمشروعية الوضع القائم، تميل عملية التغير الاجتماعي باتجاه العنف.

إذن و من خلال ما تقدم، فالدافع الكامن وراء نزوح سيرورة عملية التغير الاجتمـاعي باتجاه أسـاليب العنف والقوة كشكل أساسي للفعل الاجتماعي، راجع إلى عدة أسباب أهمها غياب الديمقراطية الفعلية على الصعيد السيـاسي والاجتمـاعي في الدولة، ونعني بالديمقراطية الفعلية، ليس فقط قدرة الشعب على إبداء ما يريد قـوله، بل القدرة على القول، وإتاحة القول موضع التنفيذ الفعلي، وما يرتبط بهذا الأمر من حقوق شخصية ومدنية وحرية فكرية.

إضافة إلى حالة التخلف وما يترتب عليها من مشاكل وآفات اجتماعية، منها تدني المستوى المعيشي و غلاء الأسعار، وسوء استخدام الموارد وضعف الإمكانيات وما ينجم عن ذلك من فساد مالي وإداري، وارتفاع معدلات البطالة، وغياب العدالـة الاجتماعية. زد على ذلك طبيعة الدور الذي تقـوم به النخبة المثقفة في الحيـاة الاجتمـاعية والسياسية في هذه المجتمعات من العالم العربي، ومدى حضورهم واتساع الحيز المعطى لهم للمشاركة في صنع القرار السياسي وعلاقتهم بالسلطة.

تلك هي إذن أهم الأسباب الأساسية في مسألة العنف الاجتماعي في إطار التغير الاجتماعي، وهي ليست الوحيدة أو أنّها الأكثر فعّالية، بشكل مطلق، وفي جميع الأحوال، بل تعني فقط، أنّها الأكثر عمقا وديمومة بشكل عام، و تمثل أرضية أو أساسا لأسباب أخرى قد تكون شديدة الفعّالية في ظروف معينة، في المجتمعات العربية، و لكنها لا تتمتع بالعمق والثبات نفسه الذي تتمتع به هذه الأسباب الأساسية.

------------
المقال منشور في المشهد الأسبوعي






اعلان